صديقة القمر!
مازلت أذكر وأنا أجر ذلك الكرسي بيدي الصغيرتين في تلك الغرفة التي نصفها شبابيك مشرقة! أقرب ذلك الكرسي لنافذة، أصعد عليه بصعوبة، أمد يدي لنافذة علها تمسك بيدي لتساعدني بالوقوف على الكرسي! أتشبث بأطرافها وأصعد بصعوبة! أحاول أن أوازن نفسي حتى لا أسقط! ها أنا ذا أطل برأسي من النافذة! يا لذة الانتصار! أضع يدي اليمنى على اليسرى وأسند فكي عليها وكأنني أستعد لصلاة! صلاة من نوع أخر! أطل على منزل عمي، هنالك أرى سجاداً أحمراً مزخرفاً بكل ألوان الزهور، عليه مخدات حمراء، في الزاوية طاولة عليها التلفاز بأنتلين مفرجين، أرى والدي وعمي يجلسان في انتظار أذان المغرب في رمضان، يسير الطباخ يحمل صينية بيد واحدة مثنية إلى أذنه! يحملها بطريقة مذهلة ويسر باتزان، لا يخشى أن تسقط! أرى إبريقين من حديد نحيفين من أسفل، ومن الوسط مدببين ومن أعلى متسعان ولهما بوز، هذه الإبريقين أشبهه بالمزهرية! يغطيها الندى من كل مكان والذي يوضح لي كم هي باردة! لا يقطع جمال هذا المشهد سوى رائحة السمبوسة التي تعدها أمي وصوتها وهي تناديني لأساعدها في حمل الأغراض قبل الآذان! هذه مهمتي اليومية كل يوم، أجر الكرسي لأتلصص! عندما ذهبنا إلى زيارة جدي وجدتي في الحجاز، كان الوضع مختلفاً تماماً وأجمل، ويساعد أكثر في مهمتي التلصصية! كان لديهم شرفة “بلكونة” مكشوفة تطل على الشارع، أجلس فيها وأتلصص! الناس تسير في الطرقات، هنالك أطفال يلعبون الكرة، كنت مبهورة بالعربات التي تجر! هذا بائع البطاطس، وهذا بائع التوت، وهذا بائع الملابس، وهذا جدي عائدٌ من المسجد، ملامحه الوقورة، وعقاله القديم المذهب الذي يلبسه، كل شيء كان مذهلاً وجميلاً! في بيتنا تطلب مني أمي أن أذهب لأجلب الأغراض التي طلبتها من البقالة، فقد كان يوصلها عامل البقالة الفلبيني “بوني” على دراجته، أحمل الأكياس وأدور، أدور وأنا أنظر لسماء بفستاني القصير الذي يشعرني أنه يحلق معي! يستوقفني شيء! يرتعب قلبي! ألتصق بجدار بيتنا والذي كان له مقدمة تخفي ما أنظر له في الأعلى! أمشي على أطراف أصابعي وأحاول أن أطل بهدوء لأنظر هل مازال موجوداً! أراه موجوداً! أركض وأركض وأنا خائفة وملتصقة بالجدار لأدخل مع باب منزلنا قبل أن يراني! ترسلني أمي مرة أخرى في يوم من الأيام، فجأة أتذكره ثم يخفق قلبي وأنظر لسماء فلا أجده فأحمد الله! ويوماً رأيته فأخذت أركض ركضاً للبيت وعندما التفت رأيته يلحق بي! من الغد رأيته أيضاً! وعندما ركضت ورأيته يركض خلفي قررت أن أتعبه لعله يمل ويذهب! أخذت أركض من زاوية لزاوية ثم أنظر هل لحق بي، فأجده يلحق بي! فأشتط غضباً وزاد خوفي ودخلت مسرعة للبيت، كان عمري وقتها خمس سنوات لم يخبرني أحد أن هذا هو القمر! في مراهقتي زاد تلصصي أصبحت أرقب شروق الشمس وغروبها، في يوم عندما كنت أرقب شروق الشمس وأنا أقف بهدوء وسكينة لتأملها، رأيت من بعيد، كلبين يلحقان بقطة وهي تفر منهم، تلبست روح تلك القطة وأصبحت أركض بدلاً منها، أركض وأركض أنا الآن أركض من الموت! هذا هو شعور الفرار من الموت! لقد جربته! وفي مشهد لوثائقي عن الحيوانات كنت أشاهده رأيت تلك الأم “لفصيلة الحمار الوحشي” وهي تقف حائرة، مرعوبة، أمام ذلك الأسد الذي يطارد صغيرها حتى افترسه، ومن ذلك اليوم عرفت احساس عندما يفترس الموت أحبتك! وليس بيدك شيء لتفعله! ومن ذلك اليوم حرمت على نفسي مشاهدة الوثائقيات التي عن الحيوانات! يحمل أبي بندقيته ليدربني على الصيد! يقول لي وهو يبتسم يا لله يأم ثم يصمت ويسألني؟ ماذا ستسمين ابنك، فأبتسم وأصمت! فيقول لي إذا جبت ولد سميه فهد! يأم فهد! في أول رحلة للقنص قررت أن أذهب معهم لأشاهدهم وهم يصطادون، أول طائر اصطادوه عندما التفت وناظرت له رأيته يحتضر! عيناه تصارعان الموت! اظن هنالك فرق بين الاصطياد للحاجة والاصطياد للمتعة! لم تعجبني فكرة القتل للمتعة! في ذلك الوقت مواعظ الموت طيرت قلبي أكثر وأكثر! وقف يوماً أبي على رأسي بعدما رأى أنني أنام على الضوء وقال لي ” وأنا أبوك هذي الأنوار متعبة لك ” صمت وكنت أريد أن أبوح لأبي أن الجهل مؤلم! والأشد منه ألماً أن تعلم! ” عندما مكث الموت طويلاً في رحاب عائلتي وأصبح يتخطفهم! لم أعد أخافه! فأنا كل يوم في انتظاره! وأنام في ظلام دامس! عندما أجوب شوارع الرياض وفجأة أنظر لسماء فأرى القمر أمامي، ابتسم وأشعر أنه يواسيني كلما نظرت له! لم يعد يخيفني ولن أهرب منه أبداً!
أنا اليوم صديقة الموت والقمر!