وانيت الطيبين !
شاهدت اليوم تغريدة لعبد المحسن المطيري @Abudul_m كان تحوي صور أطفال يجلسون في حوض سيارة الوانيت، هذه الصور فتحت ثقباً لذاكرة، ومشهد أول مرة ركبت فيها حوض الوانيت كانت في مزرعة شقراء في حرب الكويت! ونحن هاربون من صواريخ صدم التي كان يوجهها للرياض! ما زلت أذكر ذلك المشهد وأنا مستلقية ألعب وأمي رحمها الله تقف فوق رأسي لتنظر للشباك لترى ضوء الصاروخ، لتصرخ تنادي أبي رحمه الله أن يأتي ليشاهد ما تراه!، أبي الذي كان يشاهد التلفاز ويراقب الأخبار، لم يتمكن من الحضور ومشاهدة الصاروخ! لأنه مباشرة أطلقت صافرات الإنذار وقطعت الكهرباء!، ودب الرعب فينا أخذنا نصرخ ونتراكض للمكان الذي أعدته أمي رحمها الله، وكانت قد اللصقت الشبابيك باللصق من كل مكان تحسباً لتهديدات صدام بإرسال الكيماوي!، أغلق أبي باب الغرفة وسحب “الباطرمة” ووضعها عليه، ثم قالت أمي له بصوت خائف سمعت يا فهد أن الغرف التي في الأعلى ليست أمنة مثل الأسفل!، ليقول أبي بصوت عالي أنا أخو فهدة! لأتسأل في لحظتها من هذه المرأة التي يذكرها أبي ولا أعرفها! ثم علمت فيما بعد أنها عمتي توفيت بحادث سيارة وكان موتها أول جرح في صدر أبي!، ذكرت قصتها في مذاكرات أبي ( مات أخو فهدة ) ثمانية عشر عاماً من الحزن !) صرخ أبي أنا أخو فهدة ثم رمى “بالباطرمة” وفتح الباب وحمل أخي عبد الرحمن، وأمي حملت أختي ريا، وهو يركض من على الدرج ونحن نركض خلفه، نزلنا لبيتنا في الأسفل وكان تحت الترميم، دخلنا البيت نتلمس الأماكن فالظلام دامس، دخلنا غرفة وجلسنا جميعنا في زاويتها حتى بزغ الفجر، قرر أبي أننا لن نجلس في الرياض أبداً، وسنرحل مع الصبح إلى مزرعة شقراء، أدركت ذكاء أمي رحمها الله عندما كانت قد جهزت حقائب لنا، وجعلتها في مكان لأجل أي أمر طارئ!، مع الفجر ذهب أبي يجهز السيارة التي سنسافر عليها، وقابل زوج عمتي وأخبره أن عمتي دخلت بالأمس المستشفى وولدت! وسينتظر إذا كان سيُسمح لها بالخروج لنذهب سوياً!، عندما ولدت عمتي كان هنالك حيرة في تسمية ابنها هل يسمونه عاصف على عاصفة الصحراء! أم فهد على الملك فهد رحمه الله واستقر الاسم على الملك فهد وسمي به، في الساعة التاسعة صباحاً نضع حقائبنا وما نحتاجه لسفر، يصعد أبي رحمه الله سيارته، لأبي رحمه الله طريقة مميزة تخصه في ركوب السيارة يلف شماغه بطريقة معينة، ويرفع أكمام ثوبه بطريقة معينة، ثم يسم الله وينطلق، وعندما يحدو بصوته الشجي يشعرك أنه لا يقود سيارة بل يقود إحدى الإبل! كان ذلك الحدا نادراً وأشعر أنها أعلى مرحلة لدى أبي عندما يحتل الوجع في صدره! ويخجل من الشكوى وليس له إلا أن يحدو بصوته الشجي! وصلنا مزرعة شقراء، ها هم أطفال العائلة يتراكضون لسيارة، وجدي وعماتي يقفون في تأمل هذه السيارة التي جاءت من يا ترى تحمل من أفراد العائلة؟! الفرحة عامرة بحضور أبي وحضورنا، عندما نزلت ورأيت المزرعة هذه الخضرة الجميلة ، والرشاشات المهيبة ، والأرض والسماء هذا ما أحبه أنا! كنت طفلة متأملة ومتلصصة!، وفي المزرعة ما يشبع تأملي وتلصصي! كان في المزرعة بيت كبير مبني من الطين ، وفي الجهة الأخرى بمسافة بعيدة قليلاً يوجد قسم الرجال، ومن الخلف بمسافة يوجد بستان، عندما زاد أعداد أفراد العائلة الهاربون من الحرب!، بنيت خيام لصيقة بالمنزل حتى تكفي لكل أفراد العائلة، تبدأ طقوس المزرعة من بعد العصر! على جهة اليمين توجد كومة تبن مرصوصة كانوا الأطفال يلعبون عليها لعبة الحرب!، فريق السعودية، وفريق صدام حسين، طبعاً الأطفال الأضعف كانوا يجبرون أن يكونوا فريق صدام حسين!! تبدأ الصافرات ويحمل كل فريق أدوات القتال المختلفة لتحقيق النصر! والنصر دائماً حليف الأطفال الأقوى وفارضين هيمنتهم! لعبت معهم ثم مللت لعبتهم! وأصبحت أمارس تأملي وتلصصي! هناك مجموعة تضع فرشة بالقرب من الخضرة، وتحضر القهوة والشاي وتجلس تتجاذب أطراف الحديث والغالب عن الحرب!، مراهقات العائلة يسرن في جهة بعيدة من المزرعة يلعبن دور لدينا خصوصية!، ووجههن ممتلئة بالأصباغ، لأعلم لماذا كل هذه المبالغة بوضع المكياج! هل هذه الكثرة تأكيد لدخول مرحلة الأنوثة ! في الجهة الأخرى عند قسم الرجال مراهقين العائلة يقودون السيارات الموجودة في المزرعة و يفحطون!، مجموعة من عماتي لا يخرجن يجلسن أمام المذياع لسماع الأخبار، البعض يجلس في غرفته ولا يفضل الخروج أبداً، والبعض مجموعات يجتمعون في غرفة محددة، بعد المغرب كانت عمتي رحمها الله تجلس في الصالة وتحضر صاج الخبز وتشغل موقدها، وتعمل خبز يسمى لدينا ” المراهيف ” خبز رقيق جداً مع الحليب الدافئ، أجمل ما تأكله وتشربه! أشعر أن عمتي كانت تعبر عن حبها للجميع بما تطبخه لهم، وأنا أكتب هذه الكلمات أشعر بوهج حبها في جلستها، ويديها التي تقلب العجين وتفرده على صاجها، ضاحكة سعيدة تعطي الصغير والكبير، رحمها الله وجعل قبرها روضة من رياض الجنة ، كانت الأغاني الوطنية تصدح في كل مكان تلهب القلب على الوطن وعلى من يحمون الوطن، وعن البعيدين عن العين!، عندما تُضرب الرياض بالصواريخ يجتمع الجميع في الصالة عند المذياع الذي كان يتوسط الصالة الكبيرة، الجميع يبكي، رجالات العائلة كانوا جميعاً في الرياض، ولم يكن معنا سوى جدي رحمه الله ومراهقي العائلة، وهذا ما كان يغضب جدي ويكرر مقولته “أنا مخليني جالس مع الحريم!!” كان يراها إهانة في حقه! كان جدي قد تجاوز التسعين من عمره، ويصعب أن يبقى في الرياض، أعلم أن شعور جدي كان صعب على رجل مثله كان رجلاً مهاباً، وفارساً ذا مكانة في قبيلته، كان حلم كثير من الأمهات أن يتزوج بناتهن !، حتى أن قصة مشهورة مازالت تذكر حتى وقتنا الحاضر عن رغبة النساء بالارتباط به لمكانته، وأظن تلك القصة وأحداثها كانت تجعله يبتسم! يُحكى أن إحدى النساء كانت لديها ابنة جميلة، وكانت لديها رغبة شديدة في أن تزوجها لجدي، وكانت تهدد جدتي أنها ستزوجه ابنتها وستجعلها تهرب هي وأبنائها من بيتها مثلما تنبح الكلاب وتهرب ساعة الرمي! لم تهتم جدتي رحمها الله لمثل هذا الكلام، وكانت امرأه حكيمة، مرتفعة عن مثل هذه الأقوال، وقد استقت الحكمة من والدتها التي كان لها مجلس تقضي فيه بين الناس رجلاً كانوا أو ونساءً! لكن في يوم من الأيام عندما سمعت جدتي صوت البنادق والكلاب تنبح، وكانت من عادة البدو أن يحددوا لهم يوماً ويضعون شارة يرمونها ، كأن هذا المشهد الحي ألم قلبها وأصابها في مقتل! لتعتزي بأبيها وتدخل بيتها وتلبس ابنتيها فساتين مطرزة كانت معروفة في ذلك الوقت بجمالها، وفكت شعورهن وجملتهن، وألبست والدي رحمه الله ثوباً مكمماً جميلاً، والبسته قديمي جدي، والقديمي نوع من أنواع الجنبية، ولبست هي فستاناً مكمماً مطرزاً جميلاً أيضاً، ووضعت في خصرها حزام زوجها ، ثم ذهبت لمجمع النساء، وكان من عادت النساء بعد العصر أن يتجمعن ويرقصن، وعندما أقبلت تمشي إليهن، أخذت تنشد قصيدتها والتي مطلعها تصف فيها نفسها ، ثم أخذت تصف جمال بناتها ، وتنادين عليهن أن يرقصن، ثم سحبت القديمي من وسط أبي رحمه الله و أخذت ترقص به معهن ، وتثني على زوجها وأن أبو فهد كان يفعل لي ويصيد لي ، وأنني أنجبت منه هؤلاء الأبناء الذي عليهم وسم أجدادهم ” وكان جدي رحمه الله وسيم وكلمة وسيم قليلة في حقه بل كان وسيماً جداً ، وعلى أن جدتي كانت جميلة لكن كان يرضي غرورها أن أبناءها يشبهون أبيهم! وهذا ما جعلها تخاطب تلك المرأة باغترار وتقول أنظري لهم وعلى من يشبهون!، ثم أخذت تخاطب تلك المرأة في بيت وتقول لها إن لم تبتعدي ، فستجدين أبلك مقتولة في مكان وسمته! طبعاً البدوي والبدوية في ذلك الوقت أهون عليهم أن يموت أحد أبنائهم على ألا تموت إحدى إبلهم! هذا المشهد الذي لا يليق إلا بجدي، والذي أظن كل رجل يشبع غروره مثل هذا الاقتتال عليه! لذلك هذا الرجل عظيم المكانة كان يرى في جلوسه بين النساء والأطفال، وخاصة في الحروب التي هي تليق به مهانة عظيمة! كان جدي رحمه الله بعد العصر يركب سيارة الوانيت وكانت عمتي تقود به، ويجمع أحفاده في حوض ذلك الوانيت، ويذهب للبستان لنحصد البرسيم! في أول يوم صعدت فيه ذلك الوانيت ،وركبت حوضه كان مشهد جميلاً ، أخاذاً ، مبهجاً للقلب، لكم وددت في تلك اللحظة أن ينزل الجميع وأستلقي فيه وأنظر لسماء والسيارة تسير بي!
قررنا نحن الأطفال أن نقوم بعمل قطة من عشرة ريال لأجل أن نشتري كراتين حلويات لنأكل منها كل يوم، حضر بعدها والدي بيومين ليعود بنا لرياض فأصبح الوضع آمن، عندما ودعت المزرعة كنت أتأملها من النافذة وفي كفي حلاوة أبو نظارات بألوانه المتعددة!
وعدت للمزرعة بعد ست أو سبع سنوات مراهقة تحمل في كفها أغنيات!
يقود أخيها كابرس أبيض بمراتب مخملية حمراء!
تصدح كلوديا الشمالي بأغنيتها
يا حبيب الروح نادي .. ما بحمل كلمة تراضي
نقف عند محطة لنشتري من التسجيلات شريط حفلة لندن لمحمد عبده والتي كانت أول حفلة له بعد حرب الخليج
ليصدح أبو نورة
الله عليها عودت وأنا أحسب الغالي نسى
ها أنا عائدة لمزرعة شقراء وهنالك الكثير الذي يروى!
#يشكل حوض الوانيت مرحلة جميلة، ومبهجة في قلب كل سعودي وسعودية، وكأنها هي الملاهي لهم! ولن تتكرر في جيل من الأجيال! لذلك صياغة فيلم مرتبط بهذا الشيء أظن أنه جميل ، مثل لو طفل يذهب لمدرسته التي تبعد عن قريته كيلو مترات هو وأطفال القرية، وطوال الطريق مشغول بالتفكير والتساؤلات والتأملات ، وعندما يعود يعمل مع والديه في مزرعتهم ويحملون لقمة عيشهم على هذا الوانيت، عندما يريد أن يلهو هو وأشقاءه يقود بهم ويضعهم في هذا الحوض، صناعة مشهد لنوم في حوض الوانيت….الخ ، هذه أفكار عابرة وسريعة لتجسيد فيلم متعلق بهذا الحوض والذي كان يشكل شيء عميق في نفوس تلك الأجيال!
# من الأشياء المبهجة لقلبي أنني يوماً دخلت مكتبة مستعملة ووجدت كتاباً جمع كل القصائد الفصحى والعامية التي ألفت في أثناء حرب الخليج