مأتم شواء !
وهو يُلمّع زجاج الباب كان صاحب الدكان يثرثر عليه عن غرامه وحبه لأحجية تركيب الصور ، وكيف كان يشتري الأحاجي تلو الأحاجي ليركبها ، وكيف تتشارك أسرته معه في حلها، وكيف هي المتعة في ذلك ، أخذ يتخيل حاله وأسرته تجتمع على حفلة شواء وعلى مثل هذه الأحاجي ، كان يبتسم وهو يتخيل ذلك المشهد! ، حين يحرم الله الفقراء المال يهبهم خيالاً واسعاً يواسون به أنفسهم ! حدث نفسه أنه يوماً ما سيتشارك هو وأسرته اللحظات الجميلة ، وما يهمه الآن هو أن يوفر لأسرته ما يسد جوعهم ، فمنذ خمسة شهراً وهو يبحث عن عمل فبصعوبة وجده ! وبهذا المبلغ الزهيد الذي بالكاد يكفي لقوت يومهم، والذي جعله يقبل بهذا العمل حالهم المزري فهم بلا هوية ويعيشون على حافة الحياة ! في يوم دخل عليه صاحب الدكان وصفعه وطرده شر طرده! علم لاحقاً أن هنالك هجوماً يشن من البوذيين ضد المسلمين بعد خطابات بعض رهبانهم ، أصبح العمل شبه مستحيل ، ليتهم فقط ينجون بحياتهم! ، ذهب يبحث عن ما يسد جوعه هو وأسرته، قضى نصف نهاره وهو يبحث ولم يجد شيئاً، ليس وحده الذي يعاني الآلاف معه يعيشون في العراء بلا أكل وشراب، وهو عائد وجد تفاحة كانت سعادته بها غامرة، وإن كانت لا تسد جوعهم ولكنهم يدركون قيمة تلك القضمة الصغيرة التي تمدهم بالحياة ! أخذ يركض بأسرع ما لديه ، يريد أن يطعم والديه وصغاره وزوجته ، حين وصل ذهل مما رأى سقطت تلك التفاحة من يديه حاول جيرانه أن يبعدوه! كان القش الذي يسكن فيه محترق قاومهم بكل ما أوتي من قوة ، وحين وقف على القش كانت جثث والده، ووالدته، وزوجته متفحمة ، وصغاره الأربعة أجسادهم مفصلة بلا رؤوس ، ولا أيدي، ولا أرجل! متناثرين في كل مكان مختلطة أجسادهم مع أطفال أخرين قضوا معهم! ، جثى على ركبتيه حاول أن يصرخ .. أن يبكي لهول الموقف حتى دموعه وصوته هربا ! تقدم أحد جيرانه وأوقفه وتلى عليه ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) حاول أن يتمالك نفسه ،وقف وهو يشعر أن كل شيء يموت في نفسه! مشى بخطى متثاقلة، كان جيرانه يجمعون جثث صغارهم أمسك برأس ابنه وهو يرتجف، يحاول أن يصدق الأمر وضعه في مكان! أخذ جسده ووضعه بالقرب من رأسه ، مد يده لإحدى الأيدي المتناثرة التي أمسك جاره أيضاً بها ، أخذا يتدافعان وكل منهما يقول هذه يد ابني، جثى على ركبتيه منهاراً باكياً ، قال يا صديقي أخبرتني عن جمال تركيب أحجية الصور! لكني لم أتخيل أنها بهذه الصعوبة وهذا الألم ! لم تمنحني الحياة صورة ولو واحدة لهم لتساهم معي في تركيب أجسادهم ! لم أحظى في حياتي باللحم ولا حفلة شواء! لكني اليوم رأيت جثث والدي، ووالدتي، وزوجتي متفحمة ! يا صديقي لماذا تمنحني الموت بأبشع صوره ! قطعتم الأيدي التي طالما ضمتني ! وشوهتم الوجوه التي طالما أسعدتني! أي قلوب تحملون؟!ما ضرنا لو عشنا مع بعض البعض بسلام! الأرض والسماء تسعنا ولكم دينكم ولنا دين ! بعدما دفن أسرته، أخذ يركض بكل ما أوتي من قوة والدموع تحجب نظره! في يديه بقايا من جسد والديه، وزوجته ، ودماء صغاره متناثرة تغطي قميصه، والخوف والحزن يسكن قلبه! رمى نفسه في النهر كان يريد أن يهرب، ولا يعرف إلى أين، لكنه نسي أنه لا يجيد السباحة أنقذ في الرمق الأخير عندما أفاق أخذ يركض بقوة في كل اتجاه يعلم أن الدور سيأتيه ! وجد شجرة صعد فوقها وفي أعلى نقطة فيها ربط نفسه بقميصه ، احتضن الشجرة بكل قوة وأخذ يبكي ، قال أيتها الشجرة من على الأرض نبذني ولا أستطيع صعود السماء ! أنا لا أعلم أين أذهب؟! أنا راضي بالمنتصف عليك بين السماء والأرض! أي حياة لابأس بها لن أضرك، ولن أؤذيك فقط هبيني هذه الحياة ! تذكر والدته ، أماه .. كيف هان عليهم أن يحرقوا وجهك الجميل ، ويطمسوا معالمه ! لماذا حرموني أن أحفظ ملامحكم لأخر نظرة ! الصورة الأخيرة مقلقة يا أماه ، موجعة ..هي الثابتة للأبد ، بح صوته وهو ينادي أمه وأبيه وزوجته وصغاره ، صرخ بأعلى صوت يا لله.. يا لله .. يا لله ، هطل المطر بغير وقته ، وكأن السماء تشاركه البكاء ! انتشر جيرانه يبحثون عنه في كل مكان ، وبعد بحث مضني وجدوه من الغد على تلك الشجرة، مربوط بها وقد فارق الحياة ! على رغم حزنهم على فقده إلا أنهم فرحوا بموتته تلك بل غبطوه عليها ! أصبحت كل أمانيهم أن يموتوا موته طبيعية فعزرائيل أرحم لهم بكثير من البشر حين يتشاركون معه الموت ! البشر أكثر وحشية ودموية حين يقودون الموت ! أنزلوه جيرانه صعد واحد منهم على الشجرة وأخذ يأذن بصوت متحشرج والدموع تغرق عينيه
الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر
بكى الجميع …
الله أكبر من كل شيء ونعوذ بك اللهم من قهر الرجال !